جرس أَتْري

   أَتْري مدينة ايطاليّة قديمة واقعة بجانب تلّة عالية. ذات يوم اشترى ملك هذه البلدة جرسًا كبيرًا جميلًا وأمر أن يُعلّق في قبّةٍ في الساحة العامّة وربط هذا الجرس بحبل طويل، وصله بالأرض حتّى صار أصغر الأولاد يستطيع أن يتناوله ويقرعه؛ وسمَّاه الملك جرس العدالة. وعندما انتهت الأعمال وصار الجرس صالحًا للاستعمال فرح أهالي أتري فرحًا شديدًا حتّى ليظنّ الرائي أنّهم في عيد كبير. وتوافد الناس من نساء ورجال وأولاد زرافات ووحدانًا، إلى ساحة المدينة ليشاهدوا جرس العدالة هذا، ويتمتَّعوا بمنظره لأنّه كان جميلًا وصقيلًا برّاقًا يتلألأ بالألوان المختلفة كأنّه شمس مضيئة. انتظر الناس سماع صوت الجرس بشغفٍ شديد، وبقوا مدّة طويلة واقفين بانتظار تلك الساعة التي يسمعون فيها ذلك النغم العجيب، إلّا أنّ انتظارهم لم يُجدِهم نفعًا، ولم يسمعوا قرعَ تلك الآلة الكبيرة، لأنّ الملك لم يأمرْ بذلك ولم يقتربْ من الجرس أو يمسَّ الحبل الطويل.

   وبعد أن كاد صبرهم يفرغ، اقترب مليكهم من قبّة الجرس ووقف في أسفلها، ثم مدَّ يده صوب الجماهير المحتشدة وقال: يا شعبي أتَرَون هذا الجرس الجميل؟ هو جرسكم؛ لكنّه لن يُقرع إلّا عند مسيس الحاجة؛ عندما يكون أحدكم مظلومًا سيأتي إلى هذا الجرس ويقرعه وعندئذ يسمع القضاة فيهرعون حالًا إلى هذا المكان، ويطَّلعون على الأمر ويحكمون بالعدل. واعلموا أنّه يجب ألّا يتوانى عن هذا أحد! دون فرق أو تمييز بين الغنيّ والفقير فيكم واحذروا أن يمسّه إلّا المظلومون.

وعى الناس ما قاله الملك، ومشوا على هذه السنَّة زمانًا طويلًا، فردَّ القضاة مرارًا الحقوق إلى نصابها وأخذوا بيد المظلوم، وضربوا على أيدي الظالمين.

   طال عمر الحبل القنّبيّ المكين، وأخذ يضعف ويَرُثُّ إلى أن انقطع قسمه الأسفل فصار قصيرًا لا تقدر أن تتناوله سوى الأيدي الطويلة والقامات العالية. ففكّر القضاة في إبدال الحبل بحبل طويل ملائم للجميع من طويل وقصير، لأنّه إذا بقي على حاله السيئة، فلن يستطيع قصار القامة والأولاد الاحتكام إلى العدالة والوصول إلى حقوقهم الهضيمة.

   ولكن لسوء الحظ لم يوجد في كلّ المدينة حبل من القنّب ليحلّ محلّ الحبل المهترىء الرّث. فاضطرّوا أن أرسلوا بعض الرجال ليفتّشوا عن حبل في الأرياف المجاورة والجبال وحيث إنّ هذا العمل يتطلّب وقتًا غير قصير، ربّما جاء في أثنائه أُناس مظلومون ليقرعوا الجرس، فقد أخذ القضاة يفكّرون في وسيلة تمكّن الجميع من دقّ الجرس في كلّ زمان وأوان. وفيما هم منهمكون في ذلك إذ وافاهم رجل، فأصابهم على تلك الحالة، فساعدهم على حلّ مشكلتهم وركض إلى جنينته القريبة، وعاد إليهم يحمل بين يديه قضيبًا طويلًا من زرجون الدوالي وقال لهم: هذا هو الحبل الذي إليه تحتاجون، ثم تسلّق البرج وربط حبل الكرمة بجرس العدالة، فتدلّى حتّى لمس الأرض بأوراقه الخضراء وعرانيسه الحلزونيّة. فسُرَّ القضاة من حذق الرجل وتركوا الحبل وانصرفوا إلى دورهم هانئي البال مرتاحي الضمير.

   وكان يعيش في قرية واقعة على التلّة المجاورة لأَتْرى، رجل من الفرسان المعدودين، اشتُهر في ماضيه ببسالته وشجاعته في الحروب إذ إنّه حضر عدّة معارك أبلى فيها بلاءً حسنًا، وذاع صيته بين أبطال الوغى، وكان أفضل صديق له في مغامراته وحروبه جواد أصيل نشيط رافقه في معاركه وأنقذه مرارًا من براثن الموت وأيدي المخاطر. ولمّا طعن ذلك البطل الفارس في السنّ، أصبح بغنىً عن امتطاء صهوة جواده، إذ لم يعد في مقدوره خوض غمرات القتال، وما عادت تهمّه أعمال البطولة وانحصرت وساوسُهُ وانشغل باله في أمر واحد هو الذّهب؛ ممّا جعل منه رجلًا شديد الحرص والجشع، بخيلًا، فباع كلّ ما يملكه إلّا حصانه وانعزل في كوخ حقير في منحدر تلك التلّة، وأخذ يومًا بعد يوم يزداد اهتمامًا بجمع المال ويجلس بين أكياسه المليئة بالأصفر الوهَّاج، يتفكّر في تكثيرها؛ إلّا أنّ إهماله لجواده أيضًا أخذ يزداد، اليوم بعد اليوم، فصار يبيت في مراحٍ عارٍ يتألّم من الجوع ويرتجف من البرد.

    وفي ذات يوم، صباحًا، قال البخيل في نفسه: "ما حاجتي بحفظ هذا الجواد الكسول والاهتمام به؟ إنّه يكلّفني في كلّ أسبوع أكثر من ثمنه. فعليَّ أن أبيعه إذًا، ولكن لن أجد من يريده أو يشتريه، فأرى أن أتركه وحرّيته يذهب حيث يشاءَ، يقضم الأعشاب في الحقول ويرعى في جوانب الطرقات، وإذا مات جوعًا فيكون ذلك لحسن حظّي". وللحال نفّذ فكرته هذه وأطلق لحصانه العنان في تلك الأكمة الجرداء، فجرى ذلك الحيوان المسكين في طرقاتها المغبَّرة يجرّ نفسه جرًّا من الضعف والجوع ويستولي عليه الفرح عندما يجد ضمَّة من العشب أو شوك القرقفان، وكان الصبيان السفهاء والأوباش يرشقونه بالحجارة، والكلاب السائبة تنبح عليه ولم يجد واحدًا من الناس يساعده أو يرحمه.

    ففي ذات يوم بعد الزوال، وقد احتدم الحرّ، ساق القضاء والقدر ذلك الحصان إلى ساحة المدينة، ويسَّر له ذلك لجوء الناس إلى بيوتهم لاتّقاء شرّ القيظ، فلم يرَ رجلًا ولا صبيًا ولا مخلوقًا حيًّا؛ ولمّا اقترب من البرج رأى حَبل الدوالي معلّقًا في جرس العدالة، وأوراقه وعرانيسه لم تزل طريئة خضراء فاضطربت شفتاه وتحرّك لسانه الناشف، وعاد إليه شيء من الريق، واستبشر خيرًا بتلك الخطوة الهيّنة، وفرح بذلك الغذاء مُتوهّمًا أنه مُعدٌّ لمثله من الجياد الجائعة، فأسرع الخُطى بقدر ما تسمح له عزيمته الخائرة؛ وما أن وصل حتى مدَّ رقبته الهزيلة وتناول بفيه غصنًا من ذلك الحبل، فصعب عليه فصله عن أمّه فشدَّ به شدًّا رقيقًا نحوه، وسرعان ما بدأ الجرس يدقّ، فسمعه جميع من في المدينة وخُيِّل إليهم أنّه يقول:

"أنا مظلوم تعالوا أيّها القضاة. انظروا إلى ظلامتي لأنّي مظلوم".

   فسمع القضاة ذلك فلبسُوا جبّاتهم وأسرعوا مخترقين شوارع المدينة وأزقّتها، رغم الحرّ الشديد، إلى ساحة العدالة، وفي طريقهم أخذوا يتساءَلون متعجّبين ممّن عسى أن يكون ذلك المظلوم الآتي في مثل تلك الساعة القائظة، وما أن اجتازوا البوّابة حتّى رأوا الحصان المسنّ يتلهّى بقضم وريقات الحبل الخضراء.

   هاها صاح أحدهم: "هوذا جواد البخيل! قد أتى يستنجد بالعدالة، فإنّ سيّده - كما لا يخفاكم - يعامله معاملة يندى لها الجبين خجلًا". وفي تلك الأثناء قدم الناس من رجال ونساء وأولاد إلى الساحة، تحدوهم رغبة شديدة لاستطلاع الخبر، ومعرفة نوع القضيّة التي سيحكم فيها قضاة المدينة. ولشدَّ ما كانت دهشتهم عندما شاهدوا الحصان واقفًا هناك! وأخذ الجميع يتهامسون بعضهم لبعض قائلين إنّهم بصروا بذلك الجواد يجوب التلال والحقول جائعًا هزيلًا مُهمَلًا سائبًا، بينما صاحبه مشغول بعَدِّ أكياسه المشحونة بالذهب.

   فقال القضاة للحصان: "اذهب وجئنا بالبخيل". فانصاع الحصان لأمرهم وما عتم أن عاد وإيّاه. فأُمِرَ البخيل أن يقف وينصِت إلى الحكم:

   إنّ هذا الجواد قد أدّى لك خدمات جليلة، وكان أمينًا لك وأنقذك من مآزق عديدة خطرة، وساعدك على كسب ثروتك، فعليك إذًا أن تقاسمه نصف ذهبك، تشتري له به ملجأً وعلفًا ومرعى خصيبًا يستطيع الرعي فيه عند الحاجة، ومراحًا دافئًا يقيه من البرد بعد بلوغه سنّ العجز والهرم.

   فهزّ البخيل رأسه حزنًا على ذهبه الضائع؛ أمّا الحضور فأخذوا يهتفون هتاف الفرح، وأمّا الجواد فقِيدَ إلى مراحه الجديد حيث تناول غداء لم يعرف مثله منذ عهدٍ بعيد.

                                  يوسف س. نويهض

                                1 كانون الأول 1940